رئيسيةوجهات نظر

مفتشية الشغل.. هل سينصفها أطراف الحوار الاجتماعي المركزي؟

بقلم: عبد الصمد عاصم

كاتب عام النقابة الوطنية لمفتشي وموظفي وزارة التشغيل

 

“مفتشو الشغل أهم بالنسبة إلي من رجال الأمن” شهادة تقديرية عظيمة من الراحل الملك الحسن الثاني وشح بها صدر هيئة تفتيش الشغل ببلادنا ذات مجلس وزاري. لكن الحكومات المتعاقبة ظلت في واد آخر تماما، وآخر اهتماماتها تسوية أوضاع أطر أقدم هيئة إدارية ببلادنا مفتشو الشغل حماة السلم الاجتماعي الذين يتساءلون إن كانوا سيحتفلون وتحتفل البلاد معهم بالذكرى المأوية لتأسيس مفتشية الشغل كما يليق!

وليس فقط تتميز مفتشية الشغل بالضرب بجدورها في أعماق التاريخ (تم التأسيس بمقتضى الظهير الشريف المتعلق بجعل ضابط للخدمة والعمل في المحلات الصناعية والتجارية الصادر في 13 يوليو 1926، الجريدة الرسمية عدد 725 بتاريخ 14 شتنبر 1926) وإنما تتميز كذلك بأنها نتاج اتفاق جماعي ثلاثي الأطراف، ذلكم النموذج الفريد في عمل منظمة العمل الدولية حيث تشرع ممثلو الحكومات ونقابات المشغلين ونقابات الأجراء الاتفاقيات الدولية التي تؤطر وتنظم عالم الشغل والعلاقات المهنية في مختلف دول المعمور. وهكذا فإن دستور اشتغال مفتشية الشغل في أي بلد يجد مرجعيته في الاتفاقيتين الدوليتين رقم 81 و 129 بتوصيتيهما رقم 81 و 133، وهما اتفاقيتان صادقت عليهما بلادنا لكن للأسف الشديد لم تعمل على أن تعتمدهما مرجعا ومرتكزا في تنظيم وتسيير مفتشية الشغل.

ولقد تم اعتماد مدونة شغل جديدة بالمغرب سنة 2004 لكن تحديث الترسانة القانونية المنظمة لعالم الشغل والعلاقات المهنية لم يرافقه تحديث للآلية المعهود لها التدخل بين أطراف عالمه من مشغلين وأجراء وممثليهم النقابيين، رغم ما أضافته المدونة من التزامات جديدة على عاتق أطر هيئة التفتيش. كما أن إقرار دستور جديد سنة 2011 الذي تميز بمبدإ سمو التشريع الدولي وفرض بالتالي ضرورة القيام بالملاءمة اللازمة للتشريع الوطني معه، لم يستتبع نهوض السلطات العمومية بواجباتها الدستورية تجاه مفتشية الشغل ببلادنا لتستمر فعلا قابعة في ماضيها السحيق بنية وبنيات إدارية وهياكل تنظيمية عفا عنها الزمن!

ومع اعتماد المغرب منذ 1996 الحوار الاجتماعي آلية لتعميق الحوار الجماعي حول القضايا والمطالب الاجتماعية والمادية للشغيلة المغربية ومشاكل المقاولات، أخذ اهتمام أطراف الحوار الثلاثة ينصب تباعا على مفتشية الشغل كألية تحضر لمراقبة تنفيذ ما يرد من التزامات تتعلق بقضايا القطاع الخاص بطيعة الحال، ليصدر أهم اعتراف من هذه الأطراف بمؤسسة مفتشية الشغل، وذلك بإدراج التزامات متعددة تهم هيئة تفتيش الشغل وأطرها في اتفاق 30 أبريل 2003، وأهمها حقهم في نظام أساسي خاص، وهو المطلب الذي ناضلوا عليه منذ وضع أول مشروع لنظام أساسي خاص بالهيئة سنة 1995.

وللأسف حصل هناك تأخير كبير في اعتماد هذا النظام رسميا إذ لم يتم الأمر إلا سنة 2008، رغم أنه في خضم المعركة النضالية الكبيرة التي شهدها قطاع التشغيل ببلادنا بمناسبة أول متابعة قضائية حوكم فيها مفتش شغل بالسجن عشر سنوات بسبب محضر ضد أحد المشغلين، تعهد السيد إدريس جطو الوزير الأول آنذاك عند استقباله هيئة التنسيق بالقطاع في أبريل 2005 بتسريع إخراج المرسوم المتعلق بالنظام الأساسي الخاص بالهيئة.

وحتى بعد أن صدر أخيرا في الجريدة الرسمية عدد 5649 بتاريخ 21 يوليو 2008 فقد جاء صادما لأطر هيئة تفتيش الشغل إذ خلا من أي شق مادي يخولهم تعويضات كانت مطلوبة في متن المشروع الذي كان تم إعداده من طرف مفتشي الشغل أنفسهم في إطار الجمعية المغربية لمفتشي الشغل سنة 1995، وتعلق الأمر آنذاك بالتعويض عن اللباس، التعويض عن الأخطار، وتعويض عن المردودية في مجالات فض نزاعات الشغل، حوافز مادية عن زيارات التفتيش، منحة سنوية علاوة على التعويض الجزافي على الجولات الذي هو تعويض ظل يصرف لمفتشي الشغل منذ إحداث مفتشية الشغل في بلادنا سنة 1926، بما هو استرجاع لمصاريف بدلها مفتش الشغل لأجل إنجاز زيارات التفتيش والمراقبة للمؤسسات الخاضعة لتشريع الشغل (هذا التعويض يقره مرسوم خاص واتجهت كل مشاريع النظام الأساسي المتعاقبة منذ سنة 1995 إلى إدماجه في نظام للتعويضات قائم الذات داخل مقتضيات النظام الأساسي الخاص بهيئة تفتيش الشغل الشيء الذي لم يتم في النهاية).

ما حصل للأسف الشديد كان هو الالتفاف على نظام التعويضات المقترح وإخراج النظام الأساسي في الأخير بصفر درهم تعويضات وتمرير ذلك بمناورة مراجعة قيمة التعويض الجزافي على الجولات عبر الزيادة في مبلغه، تماما كما كان يقع دائما بشكل دوري بالنظر إلى طبيعة هذا التعويض كاسترداد لما تحمله مفتش الشغل على حسابه الخاص لأجل القيام بزيارات التفتيش والمراقبة كما أسلفنا. والنتيجة أن مفتشي الشغل ظلوا في إطار النظام الأساسي المعتمد أخيرا مجرد أطر مماثلة للمتصرفين، مثلما كانوا قبل يوليو 2008، إذ لم يستفيدوا في ظله بأي جديد يذكر خاصة من الناحية المادية، وبالتالي لا زلنا في النقابة الوطنية لمفتشي وموظفي وزارة التشغيل، الاتحاد المغربي للشغل نسميه فعلا دون تجنى بنظام الصفر درهم، ولم نقبل به يوما بسبب ذلك منذ إقراره بل سرعان ما أصبح مطلب تعديله أولوية الأولويات.

إن المرجعية في المطالبة بنظام أساسي بتعويضات مادية مجزية قائمة في الاتفاقيات الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية المشار إليها أعلاه إذ تنصان على أنه: “تتألف هيئة التفتيش/ هيئة تفتيش العمل في الزراعة من موظفين عموميين يكفل لهم وضعهم وظروف خدمتهم استقرار الاستخدام، ومستقلين عن التغيرات الحكومية، وعن التأثيرات الخارجية غير السليمة”. وبالتالي فإن مسألة تحصين مفتش الشغل ضد ضغوطات محيط اشتغاله هو وفاء بالالتزامات الدولية لبلادنا، هذا الوفاء الذي أصبح مطلوبا أكثر من أي وقت مضى بعد اعتماد دستور سنة 2011 الذي نعيد القول أنه يقر بسمو التشريع الدولي ما يفرض ملاءمة المنظومة القانونية الوطنية مع ما تقره اتفاقيات منظمة العمل الدولية، من خلال اقتراح مشاريع النصوص المغيرة للتشريعات التي لا تتوافق والاتفاقيات المذكورة، ومن ضمنها المرسوم الحالي الذي صدر به نظام مفتشي الشغل الأساسي.

لقد اصطدمت مطالبات أطر هيئة تفتيش الشغل المتكررة بتعديل النظام الأساسي في عهد الحكومات السابقة والحالية كذلك دوما بالرفض الممنهج رغم تسجيل دينامية احتجاج متنامية داخل القطاع تصل درجة التنسيق الموحد بين النقابات التمثيلية بالقطاع، تمثلت في مجموعة من الإضرابات والوقفات الاحتجاجية واللجوء إلى أشكال متعددة للضغط كالامتناع عن استقبال وحل نزاعات الشغل أو التقليص من عدد زيارات التفتيش… وترافق ذلك مع خروج إعلامي مكثف، وفرض ذلك كله على الوزارة الوصية الجلوس من حين لآخر إلى طاولة الحوار القطاعي، لكن تعلق الأمر في جميع المرات بحوار شكلي ليس إلا، حوار لامتصاص غضب أطر هيئة التفتيش والتنفيس عن الاحتقان داخل قطاع التشغيل، حوار لم تعد الوزارة الحالية تكلف نفسها حتى توثيقه بالصورة فبالأحرى بمحضر رسمي يسجل ماجرياته!

هكذا استمر الوضع إذا في عهد الحكومة الحالية منذ أول اجتماع مع الوزير الوصي على القطاع في يناير 2022 حيث نسجل منذ ذلك استمرار عجز وزيرنا أو لا إرادته الالتزام بالوعود التي ما فتئ يرددها على أسماع مفتشي الشغل، بل إن الوزارة باتت تسمح لنفسها بتغيير ما تمكنت النقابات من ترسيمه شيئا فشيئا من ممارسات تدخل في أدبيات ومأسسة الحوار القطاعي، وأضحت تمارس ما شاءت من المناورات للتأجيل الغير المفهوم للاستحقاقات التي لم يعد المعنيون بها تحمل انتظار أكثر!

وجدير بالذكر في هذا السياق الإشارة إلى أنه أمام اللامبالاة التي أبداها الوزير الحالي أمام كافة الإشكالات التي تنحر هيكل مفتشية الشغل، سجل الكثيرون بتفاؤل كبير التعديل الحكومي الأخير والذي أتى بكتابة للدولة مكلفة بالشغل لأول مرة في تاريخ الحكومات بالمغرب، على أمل أن اهتمام كاتب الدولة سينصب حصريا على القضايا والمشاكل المزمنة المرتبطة بالشغل التي قد ترهن مصير مفتشية الشغل حتى. وهو ما تم بالفعل لمسه في أول تدخلات كاتب الدولة في الشغل، بيد أن التفاؤل سرعان ما بدأ يخبو، خاصة أمام ما تداولته بعض وسائل الإعلام عن عدم تمكين كاتب الدولة من الاشتغال براحة أكثر!

واليوم وبلادنا أمام تحديات كثيرة على رأسها إنجاح الورش الكبير لتعميم الحماية الاجتماعية، وإنجاح بلادنا للتظاهرة العالمية الكبرى لكأس العالم 2030 من خلال إنجاز الأوراش المفتوحة لهذا الغرض دون مشاكل للعمالة المستخدمة قد تعيد واقعة أزمات قطر مع المجتمع الدولي، واليوم وجولة أبريل للحوار المركزي منعقدة، فإن الأنظار بقطاع التشغيل تشرئب نحو حكومة الدولة الاجتماعية وممثلي المشغلين والمركزيات النقابية، والأمل معقود على هذه الأطراف جميعها أن تؤشر على موافقتها إدراج بند في اتفاقها المنتظر يقضي بتعديل النظام الأساسي الخاص بهيئة تفتيش الشغل عبر الإسراع بإقرار نظام أساسي حقيقي عادل، محفز ومحصن، بأثر رجعي إداري ومالي بعدد لسنوات جبرا للضرر الحاصل عن مرور 17 سنة تحت النظام الصفري الفارغ، علما أن اتفاق الحوار الاجتماعي المركزي 29 أبريل 2024 نص في آخر فقرة من الإجراء الثالث المتعلق بالقانون التنظيمي المتعلق بشروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب أنه: … وفيما يتعلق بالملفات الفئوية، ستتم مواصلة العمل على معالجتها وفق مقاربة تشاركية، لاسيما من خلال مراجعة الأنظمة الأساسية الخاصة ببعض الهيئات وتجويدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى