
بقلم: مريم بنعباد
مؤسِّسة z.systems
منذ نهاية سنة 2024، يشهد قطاع الاستهلاك الواسع في المغرب تراجعًا حادًا وغير مسبوق. الأرقام الصادرة عن مختلف الفاعلين قد تختلف من حيث الدقة، لكنها تتفق في الاتجاه: انخفاض في المبيعات يتراوح بين 20% و30% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. غير أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: ما الذي تغيّر فجأة؟
أزمة بنيوية… لا ظرفية
بعكس التفسيرات المعتادة التي تلقي باللوم على التضخم، أو المنافسة في الأسعار، أو فشل العروض الترويجية، فإن ما يجري حاليًا يبدو أعمق بكثير. نحن أمام خلل هيكلي ضرب أساسات التجارة التقليدية، والتي ترتكز في جزء كبير منها على الاقتصاد غير المهيكل أو ما يُعرف محليًا بـ”الاقتصاد غير الرسمي”.
عفو ضريبي بهزات غير محسوبة
بداية الأزمة تعود إلى قرار حكومي صدر في دجنبر 2024، يقضي بعفو ضريبي تحفيزي يتيح للأفراد والمقاولات تسوية أموالهم النقدية دون متابعات قانونية، بشرط التصريح الطوعي والسريع بها. رغم أن المبادرة لاقت ترحيبًا علنيًا، إلا أنها أثارت مخاوف كبرى في السوق، وخصوصًا في أوساط الفاعلين داخل القطاع غير المهيكل.
“الكاش”: العمود الفقري للتوزيع التقليدي
في الواقع المغربي، يُعدّ النقد (الكاش) الركيزة الأساسية التي تدور بها عجلة التجارة التقليدية، وليس مجرد وسيلة دفع. فالمعاملات بين المصنعين، والموزعين، والباعة المتجولين، والتجار الصغار، تتم في الغالب نقدًا. والأهم، أن هذا النظام النقدي يُغذّي آلية الائتمان غير الرسمي التي يعتمد عليها السوق بشكل واسع لتدبير السيولة.
منظومة ثقة قائمة على الشيكات الشخصية
لفهم حجم الارتباك الذي حصل، يجب العودة إلى آلية توزيع السلع:
الموزعون الكبار يُموّلون مخزونهم بأموال نقدية أو بشيكات موقعة من أطراف أخرى، كمحلات نصف الجملة والباعة المتجولين، وذلك لتفادي أي تتبع ضريبي مباشر. هؤلاء يوزّعون البضاعة على التجار الصغار اعتمادًا على الثقة المتبادلة، والتي توثَّق عبر شيك شخصي.
هذا الشيك، الذي يُكتب عادة باسم فردي، يضمن أداء ثمن السلع في آجال تتراوح بين 15 و90 يومًا، حسب العلاقة بين الطرفين. كما يشكّل ضمانة قانونية في حالة عدم الوفاء، إذ يُمكّن الموزّع من اللجوء إلى القضاء. لكنه أصبح الآن أداة مشكوكًا فيها بعد إعلان العفو، حيث بات العديد من الفاعلين يرفضون توقيع شيكات بأسمائهم خوفًا من التتبع المالي، ويمتنعون عن التعامل عبر التحويلات أو الإيداع البنكي.
اختفاء الضمانة = توقف المنظومة
حين تسقط الضمانة، تتعطل آلية التمويل. وبدون تمويل، تتوقف حركة البضائع. خلال أسابيع فقط، دخلت سلسلة التوريد في حالة شلل تدريجي.
تأثّر جميع الفاعلين، خصوصًا التجار الصغار، الذين يعتمدون على مخزون لا يتجاوز في العادة شهرًا واحدًا. المنتجات سريعة الاستهلاك تختفي، والسلع بطيئة الخروج تتكدس. الأخطر، أن هؤلاء الباعة يعتمدون بدورهم على منح تسهيلات للزبناء النهائيين، فيبيعون “بالكريدي”، بما يعادل في المتوسط شهرًا من رقم معاملاتهم.
أزمة سيولة تضرب في العمق
ما نعاينه اليوم ليس تراجعًا عاديًا في الطلب، بل هو انكماش خطير للسيولة داخل منظومة اقتصادية بنيت أصلًا على الائتمان والثقة، خارج أي قنوات مصرفية رسمية.
وهكذا، بدأ الموزعون الكبار بتقليص الكميات، وتوقفت محلات نصف الجملة عن الشراء، ووجد الباعة بالتقسيط أنفسهم عاجزين عن التجديد، أما المستهلك، فخسر بدوره خط التسهيلات الذي اعتاد عليه.
المثير للاستغراب أن هذه الأزمة لا تُقاس بأي مؤشرات رسمية، لأنها ببساطة تحدث في الظل، خارج دفاتر المحاسبة والقنوات القانونية.
الهوامش الهشة.. ونزيف غير معلن
ربما يعتقد البعض أن الموزعين الكبار هم الرابحون من الأزمة، لكن الحقيقة مختلفة تمامًا. فهامش الربح الصافي في هذا القطاع لا يتعدى في الغالب 0.25% إلى 0.75%. أي تراجع طفيف في الحجم التجاري يؤدي مباشرة إلى نزيف مالي قد لا يكون ظاهرًا، لكنه قاتل ببطء. وقد شهدت السوق في مرات سابقة إغلاقات “صامتة” لم تُعلن رسميًا، لكنها قلبت التوازنات المحلية.
خطر الصمت
ما يجعل الوضع أكثر خطورة هو غياب الاعتراف الرسمي بما يحدث. لا توجد أرقام أو تقارير رسمية تشرح هذا الانهيار الصامت، لأنه يتمّ خارج الرادار.
إلى أين؟
ما الحل؟ كيف يمكن إعادة بناء منظومة الثقة؟ هل يمكن خلق بدائل مؤسساتية من دون فهم ما تم تدميره؟ وكيف يمكن ضخ السيولة في اقتصاد غير مهيكل دون أن يُخنق بالإجراءات القانونية؟
لقد حان الوقت لوقف التعليق على الأعراض الظاهرة. وللشروع في معالجة جوهر الخلل.