وجهات نظر

دراسة: الطلب الحقيقي على النقود ومحدداته عند التوازن

  • د. ابراهيم منصوري، أستاذ العلوم الاقتصادية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض بمراكش.
  • د. الحسين بوزيل، باحث في العلوم الاقتصادية.

من المعروف في الاقتصاد النقدي (économie monétaire) أن دالة الطلب الحقيقي على النقود في بلدان كثيرة تتسم بعدم الاستقرار (Instabilité)، وخاصة بعد دخول هذه البلدان في سلسلة من الابتكارات المالية (Innovations financières) منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي. وفي هذا الإطار، يُلاحَظ أن الاقتصاديين المتخصصين في الاقتصاد النقدي والمالي ينحون مجملاً إلى نموذجة دالة الطلب الحقيقي على النقود وتقديرها استناداً إلى بيانات إحصائية فعلية دون الاهتمام بالمتغيرات التوازنية والكامنة (Variables d’équilibre et potentielles).

نعتقد أن الاشتغال على هذا الصنف من المتغيرات يكتسي أهمية كبيرة طالما أنه يمكن الباحث والسلطات النقدية من فهم أحسن لظاهرة الطلب على النقود واستشراف أغوار السياسة النقدية صياغة وتنفيذا، وذلك في أفق كبح جماح التوترات التضخمية والسعي إلى بلوغ معدلات نمو اقتصادي مستدام. ولذلك فإن هذه الورقة المقتضبة تصبو إلى نموذجة الطلب الحقيقي على النقود في المغرب بإدماج متغيرات توازنية وكامنة وإجراء تقديرات واختبارات قياسية على الفترة الزمنية الممتدة من 1978 إلى 2017، آملين أن نستخلص الدروس والعِبر حول مآل السياسة النقدية في المغرب، وخاصة في السياق الحالي المتسم بعدم توفر الشروط الضرورية للمرور إلى إستراتيجية فعالة لاستهداف التضخم (Ciblage d’inflation) وفي خضم سياق اقتصادي يتميز بتوسع المديونية العامة داخليا وخارجياً. ويعني هذا بالأساس أن دراستنا القياسية تعمد إلى اختبار مدى استقرار دالة الطلب الحقيقي على النقود في المغرب في حالة استخدام المتغيرات التوازنية والكامنة عوض الاكتفاء بالمتغيرات التي تتم معاينتها فعلياً؛ وفي حالة تحسن استقرار الدالة، سيكون في مقدورنا أن نصرح أن المغرب يمكنه أن يستمر في اتباع سياسة نقدية مطابقة لنموذج فريدمان (Modèle de Friedman) المعروف، في انتظار توفر الشروط الملائمة لتنفيذ إستراتيجية استهداف التضخم. وتجدر الإشارة إلى أن كاتبي هذه الورقة الموجزة قد سبق لهما أن توسعا في هذا الموضوع في إطار بحثين مفصلين تم نشرهما بالمجلة الآسيوية للبحوث الأكاديمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ ويمكن للقارئ الكريم أن يطلع عليهما باتباع الرابطين التاليين:

يعرف الدارون بحقل الاقتصاد أن الطلب الحقيقي على النقود يحدده عاملان أساسيان وهما الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة ومعدل الفائدة الحقيقي، مع العلم أن ارتباط معدل الفائدة الحقيقي بنسبة التضخم يمكن من إعادة نموذجة المتغير التابع على أساس أنه يرتبط بمعدل التضخم ومعدل الفائدة الاسمي بالإضافة إلى الناتج الداخلي الإجمالي الحقيقي؛ بل ويذهب بعض الاقتصاديين إلى إدخال معدل الفائدة الحقيقي ونسبة التضخم جنبا إلى جنب بدعوى أن الارتباط الخطي بينهما ضعيف إلى حد ما.

وبما أن نموذج الطلب الحقيقي على النقود ليس خطيا (Non linéaire)، فمن الضروري إدخال اللوغاريتم النيبيري على يمين وشمال المعادلة الأولية، مع العلم أن التعبير اللوغاريتمي لن يخص طبعاُ إلا الطلب الحقيقي على النقود كمتغير تابع والناتج المحلي الإجمالي الحقيقي كمتغير مفسر. إلا أن الأهم في دراستنا التحليلية القياسية يتمثل في الاشتغال على بيانات إحصائية توازنية وكامنة، أي على الطلب الحقيقي للنقود عند التوازن ومعدلي الفائدة والتضخم التوازنيين والناتج المحلي الإجمالي الكامن (PIB potentiel)؛ مع العلم أن القارئ الكريم مدعو إلى التعرف على المناهج التي صغناها وطبقناها من أجل قياس هذه المتغيرات ضمن ورقتينا البحثيتين المفصلتين المشار إلى رابطيهما الإليكترونيين أعلاه.

بالاعتماد على التحليل القياسي العصري للسلاسل الزمنية (Analyse moderne des séries temporelles) التوازنية والكامنة، وبالاستناد إلى تقديراتنا القياسية لنموذج لتصحيح الخطأ (Error Correction Model) على الفترة الزمنية الممتدة من 1978 إلى 2017، يتضح جلياً أن الناتج الداخلي الإجمالي الحقيقي الكامن (Real Potential GDP) يؤثر إيجابيا في المدى الطويل على الطلب الحقيقي التوازني على النقود (Demande réelle de monnaie à l’équilibre) بمعنى المؤشر النقدي المجمع M3 (M3 Agrégat monétaire)  الذي تم تخفيضه بتقسيمه على مؤشر الأسعار عند الاستهلاك، مع العلم أن هذا التخفيض (Déflation) يمكن إجراؤه أيضا بتقسيم القيمة الاسمية للمؤشر M3 على مُخفِّض الناتج المحلي الإجمالي (Déflateur du PIB). وبالعودة إلى تقديراتنا القياسية، فإن أي ارتفاع بواحد في المائة (1%) في الناتج الداخلي الإجمالي الحقيقي الكامن ستنتج عنه على المدى الطويل زيادة في الطلب الحقيقي على النقود عند التوازن (Equilibrium Real Demand for Money) بما يناهز 1%، مما يعني أن تقدير نموذج لتصحيح الخطأ مع استعمال متغيرات توازنية وكامنة عوض الاشتغال على بيانات ماكرو-اقتصادية فعلية ، يفضي مجملاً إلى الحصول على مرونة للطلب الحقيقي على النقود بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي تلامس قيمتها 1 (Elasticité unitaire).

يبدو أن هذا التخريج  القياسي يكتسي أهميةً معتبرة، وعلى الخصوص إذا فقهنا أن الغاية الأهم بالنسبة للسلطات النقدية المغربية، أي بنك المغرب بالأساس، تتمثل في الحصول على مخرجات نقدية (Monetary Outcomes) تتطابق إلى حد بعيد مع تعاليم المدرسة النقدوية (Ecole monétariste) التي يتزعمها الاقتصادي الأمريكي مِلْتُون فرِيدْمان الحاصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية سنة 1976 والمعروف بأبحاثه العميقة حول التاريخ النقدي وتعقدات السياسات الماكرو-اقتصادية الرامية إلى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والعلاقة بين خلق النقود والضغوط التضخمية. وفي هذا الصدد، يبدو من الواجب أن نذكر قارئات وقراء هذه الورقة البحثية الموجزة أن ملتون فريدمان نفسه هو الذي بلور وطور القاعدة المعروفة باسمه والتي تذهب إلى أن الكتلة النقدية (Masse monétaire)  يجب أن تتغير بالموازاة مع تغير الدخل القومي، في إطار ما يسمى بمعدل النمو المنتظم (Steady-State Growth Rate).

أما بالنسبة لمعدل التضخم التوازني فإن تقديراتنا واختباراتنا القياسية  في إطار نموذج لتصحيح الخطأ تبين بوضوح أن شبه مرونة (Semi-élasticité) الطلب الحقيقي على النقود بالنسبة لمعدل التضخم تناهز 1. ولهذا فإن أي ارتفاع في التضخم التوازني بواحد في المائة (1%) سينتج عنه تدهور في الطلب الحقيقي على النقود عند التوازن بما يضاهي 1%. وهذا ما يكرس الصلابة المفاهيمية والمنهجية لبناء وقياس متغيراتنا التوازنية والكامنة. كلما بُنِيَت النموذجة على هذه الأصناف من المتغيرات عوض البيانات الإحصائية الفعلية، كلما حصلنا على مخرجات قياسية تلائم سياسة نقدية ذات انتظام توازني بالمغزى الفريدماني للمصطلح.

تبين مُخْرَجاتنا القياسية إلى أن الاختبارات التي تمت أجرأتها توضح أن معدل الفائدة الحقيقي التوازني لا يمكن أخذه بعين الاعتبار في المعادلة المقدرة للطلب الحقيقي التوازني على النقود، وخاصة أن إحصائية t لِستيُودَنْت (Student t-Statistic) بقيمتها المطلقة تبدو أضعف بكثير من 2، ورغم أن المُعامل المرتبط بمعدل الفائدة الحقيقي التوازني يدخل فعلا بإشارته السالبة والملائمة لتنبؤات النظرية الاقتصادية التي تقول إن العلاقة بين الطلب الحقيقي على النقود ومعدل الفائدة علاقة عكسية لأن الفاعلين الاقتصاديين يفضلون الادخار على طلب النقود في حالة ما إذا نَحَتْ معدلات الفائدة إلى الارتفاع. وبالنظر إلى التعبير الإحصائي الغير ملائم، فإننا أسقطنا معدل الفائدة الحقيقي التوازني من المعادلة النهائية ثم عمدنا بعد ذلك إلى إعادة تقدير نموذج تصحيح الخطأ. إلا أن هذه النتيجة القياسية لا يجب أن تفاجئ الباحث المطلع على الاقتصاد المغربي، وبالخصوص إذا استوعبنا أن الأُسَر (Les ménages) في المغرب ما زالت لم تستوعب بعد الثقافة الادخارية المدرة للفوائد.

يبدو أن دراستنا التحليلية والقياسية بما أفضت إليه من نتائج معتبرة تمكن من صياغة توصيات هامة للسلطات النقدية بصفة خاصة وصانعي القرار الاقتصادي والسياسي بصفة عامة. ففي المقام الأول، يتبين أن الاشتغال على متغيرات توازنية وكامنة عوض بيانات ماكرو-اقتصادية فعلية ينتج عنه الحصول على مرونة أُحَادِية للطلب الحقيقي التوازني على النقود بالنسبة إلى الناتج الداخلي الإجمالي الكامن بالأسعار الثابتة. كما أن حزماتنا المفاهيمية والمنهجية أدت أيضاً إلى تخريج شبه مرونة أُحادِية للطلب الحقيقي على النقود عند التوازن بالنسبة إلى معدل التضخم التوازني، مما يطابق ما ذهبت إليه نظرية فريدمان التي ترى أن هناك علاقة وثيقة بين الكتلة النقدية ومعدل التضخم، خاصة على المدى البعيد. ويعني هذا في الحالة المغربية أن أية زيادة في معدل التضخم التوازني بنقطة مئوية واحدة  ستؤدي إلى هبوط في الطلب الحقيقي التوازني على النقود بما يناهز 1%. ويوضح هذا التخريج القياسي أن تفاقم التضخم من شأنه أن يرغم الفاعلين الاقتصاديين على تخفيض طلبهم على النقود واستبداله بالطلب على الأصول الحقيقية (Real Assets)؛ مما ينجم عنه في نهاية المطاف هبوط في الطلب على النقود.

إن استخدام المتغيرات التوازنية والكامنة عوض تلك التي تتم معاينتها بالفعل يُمَكِّنُ حقيقةً من تقليص حدة عدم استقرار دالة الطلب الحقيقي على النقود، بل تنتج عنه دالة تكاد تكون مستقرةً بالتمام والكمال، وذلك طبقا لاختبارات الاستقرار (Stability Tests) المعروفة من أمثال اختبار شو (Test de Chow ) واختبار البواقي الترجعية (Recursive Residuals).

بناء على نتائجنا القياسية، يبدو أنه من مصلحة السلطات النقدية في المغرب أن تشتغل على البيانات الماكرو-اقتصادية التوازنية والكامنة، وذلك من أجل تحسين استقرار دالة الطلب الحقيقي على النقود، ومن ثمة تقوية الإطار المرجعي لصياغة وتنفيذ سياسة نقدية تنبني على مبدأ النمو المنتظم للكتلة النقدية، وذلك من أجل اجتناب الضغوط التضخمية بما لها من مفعول سلبي على تراكم الثروة على المدى الطويل. إلا أن السلطات النقدية المغربية لا ينبغي لها أن تطبق مبدأ النمو المنتظم للكتلة النقدية بطريقة حرفية لإرضاء مؤسسات التمويل الدولية وإظهار نفسها على أنها بمتابة “تلميذ نجيب” لهذه المؤسسات. إن التطبيق الحرفي لمبدأ النمو المنتظم للكتلة النقدية لن تنجم عنه إلا وضعية تتسم بنقص في تمويل النشاط الاقتصادي وتدني معدلات النمو الاقتصادي، ومن ثمة تدهور ظروف المعيشة لدى فئات واسعة من الشعب.

إن تبني قاعدة فريدمان النقدية دون الاشتغال على بيانات ماكرو-اقتصادية توازنية وكامنة مبنية على حسابات دقيقة يمكن أن تنجم عنه سياسة نقدية عمياء ومنتجة لاختلالات اقتصادية خطيرة في القطاع الحقيقي كما في القطاعين النقدي والمالي، و خاصة في خضم التطور الذي يعرفه النظام المالي الوطني، في ظل تسارع الإبداعات المالية وتفاقم مخزونات المديونية الحكومية داخل اقتصاد وطني يتجه نحو التحول البنيوي (transformation structurelle) كمفهوم وليد في الأدبيات الاقتصادية الحديثة. وحري بنا أن نوضح في هذا الإطار أن ورقتنا البحثية مبنية على مقاربة يبدو أنها تحوي شيئا من الإبداع والابتكار، وخاصة من خلال البناء والقياس المنهجيين لمتغيرات توازنية وكامنة، مع إدماجها ضمن نموذج قياسي (Modèle économétrique) عصري يصبو في مجمله إلى تمحيص التوازن النقدي بالمعنى الفريدماني للكلمة.

بناء على مخرجاتنا التحليلية والقياسية عند تقديرنا لدالة الطلب الحقيقي على النقود عند التوازن، والتي تبين أن هذه الدالة قد تَحسنت درجة استقرارها بعد استخدام سلاسل زمنية توازنية وكامنة، فإن حزماتنا المفاهيمية والمنهجية تبدو صلبة إلى حد ما. ولهذا فإننا ندعو البنك المركزي المغربي إلى إغناء الاستثمار في بناء متغيرات توازنية وكامنة مع استعمالها بعقلانية ناجعة، وذلك في سبيل صياغة وأجرأة سياسة نقدية مبنية على الاستهداف النقدي (Ciblage monétaire)، في انتظار تحقق الشروط المناسبة لصياغة وتنفيذ إستراتيجية استهداف التضخم (Inflation Targeting)، مع العلم أن الشروط تلك يمكن إيجازها في التطور الكافي للقطاع المالي (ٍSecteur monétaire) والتوسع في إصلاحه، علاوة على تقوية استقلالية البنك المركزي والعمل الجاد على الفصل بين السياستين الماكرو-اقتصاديتين الأساسيتين، أي السياسة النقدية والسياسة المالية (Politiques monétaire et budgétaire).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى