وجهات نظر

الخطاب الملكي ليوم 20 غشت 2019 في عشر نقاط رئيسية

د. ابراهيم منصوري، أستاذ العلوم الاقتصادية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض، مراكش

ألقى الملك محمد السادس خطابا رسميا يوم الثلاثاء 20 غشت 2019، بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب (Révolution du Roi et du Peuple). رغبة منا في توضيح مضمون الخطاب الملكي وبناء قراءات حول مراميه، يسرنا في السطور أدناه أن نتناول محتواه في عشر نقاط رئيسية، علما أننا نعتبر هذا الخطاب من أهم خطابات الملك محمد السادس وأقواها منذ اعتلائه عرش المملكة سنة 1999.

1- استحضار الثورة ومواصلة الجهاد الأكبر: الاحتفال بثورة الملك والشعب ليست مجرد سرد للتاريخ واستحضار لذكرى وفاء الملك والشعب لمبادئ الوطن والدولة؛ بل يتعدى ذلك إلى مواصلة الثورة على مختلف الجبهات من أجل تقدم ورقي المغرب اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.

2- المقاربة التشاركية للتنمية وأهمية التنسيق بين مختلف الفاعلين: قال ملك البلاد في خطابه إنه يجب اعتبار المواطن عنصراً رئيسيا في صلب التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يجب علينا تحقيقها والحفاظ على مكتسباتها في إطار مقاربة تشاركية ومندمجة (Approche participative et inclusive). ويعني هذا أن التنمية لا يمكن تحقيقها والحفاظ عليها إلا بتضافر جهود جميع الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين بمن فيهم الفاعلون المؤسساتيون وشبه المؤسساتيين وغير المؤسساتيين (Acteurs institutionnels, quasi-institutionnels et non institutionnels). إلا أن الإشكالية تكمن في كيفية التنسيق بين فسيفساء متنوعة من الفاعلين للحفاظ على الاتساق العام (Cohérence d’ensemble) للمبادرات والبرامج الإنمائية، وذلك من أجل اجتناب الدور السلبي لمجموعات المصلحة (Groupes d’intérêt) التي قد تعارض السياسات العمومية التي لا تخدم مصالحها الضيقة.

3- عن الغاية من تشكيل اللجنة الملكية للنموذج التنموي: وماذا بعد؟: قرر ملك البلاد إحداث ما أطلق عليه اسم “اللجنة الملكية للنموذج التنموي الجديد” (Commission Royale pour le Nouveau Modèle de Développement) التي ستوكل إليها مهام ثلاثة تتمثل في إعادة التقويم والاستباقية والاستشراف (Réajustement, anticipation et prospective)، بمعنى دراسة مكامن الخلل في النموذج التنموي الحالي والسعي إلى البحث عن الحلول الملائمة لتصحيحها مع الأخذ بعين الاعتبار لمجموعة من المتغيرات الاقتصادية والغير اقتصادية حاضراً ومستقبلا (الاستباق والاستشراف). وبما أن الملك يسعى إلى صياغة وتنفيذ نموذج “مغربي-مغربي” صرف مع ضرورة تملكه (Appropriation) واقتراح آليات ناجعة لتفعيله وتنفيذه وتتبعه (Opérationnalisation, exécution et suivi)، فمن الضروري العمل على الانتقاء الأمثل لأعضاء اللجنة بحيث يكونون متضلعين في ميادين عملهم ويتحلون بالوطنية الحقة مع العمل على تنويع انتماءاتهم، خاصة على المستوى الفكري.

4- القرى وضواحي المدن في صلب مسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية: ذكَّرَ ملك البلاد بخطابه الأخير بمناسبة عيد العرش، والذي حدد فيه معالم النموذج التنموي الجديد الرامي إلى تحمل المسؤولية في سبيل الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي الشامل. وفي هذا الإطار، استحضر الملك في خطابه بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب، الجهود التي بذلها المغرب بإطلاق مشاريع تنموية شاملة في سبيل تقدم البلاد والحدّ من الفوارق الاجتماعية، خاصة على صعيد القرى وضواحي المدن. وأكد في هذا الشأن أهمية خلق أنشطة مُدِرّة للدخل والشغل (Activités génératrices d’emploi et de revenu) وتسريع الولوج إلى الخدمات الأساسية (Accès aux services de base) وتحسين ظروف التمدرس (Scolarisation) ومحاربة الهشاشة (Lutte contre la précarité). وذكر الملك هنا بالغلاف المالي البالغة قيمته الإجمالية 50 مليار درهم، والذي يرمي إلى تحسين الظروف المعيشية للمواطنين في القرى وضواحي المدن. ويلاحظ في هذا الإطار أنه رغم بعض النتائج الإيجابية، ما زالت مجموعة من المشاكل قائمة، بما فيها تنوع الفاعلين وتناقض تدخلاتهم وهدر الأموال وضعف النجاعة المالية وتواضع العائدات المالية للمستفيدين من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والمحسوبية التي ما زالت تقاوم العدالة في التوزيع وإعادة التوزيع (Répartition et redistribution)، بالإضافة طبعاً إلى محدودية الأغلفة المالية المرصودة للتنمية القروية (50 مليار درهم على امتداد ست سنوات، أي ما يقارب 870 مليون دولار أمريكي فقط لكل سنة، مقسمة على مداشر وقرى كثيرة تعيش درجات متفاوتة من الفقر والتهميش والإقصاء).

5- سبل التنمية القروية: عن تآزر الدولة والقطاع الخاص: في نفس الإطار، ركز ملك البلاد على أهمية التنمية القروية (Développement rural) الشاملة، مذكرا بضرورة الاستغلال الأمثل للأراضي السُّلالية ومعترفاً أن الدولة لوحدها لا تستطيع رفع كل التحديات في مجال التنمية القروية؛ إذ لا بد من دور فعال للقطاع الخاص في العملية التنموية في القرى كما في المدن وضواحيها، خاصةً عن طريق الاستثمار في الفلاحة والمهن والخدمات المرتبطة بها، مع مراعاة التنسيق بين القطاعات الإنتاجية من فلاحة وسياحة قروية وتجارة محلية، مع تشجيع المبادرة الخاصة (Initiative privée) والتشغيل الذاتي (َAuto-entreprenariat). وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أهمية تنسيق الجهود بين كافة الفاعلين والأطراف المعنية بالتنمية القروية، مع الحفاظ على مبدأ تكافؤ الفرص ونبذ المحسوبية والرشوة وهدر المال العام والمساعدة على بناء مشاريع مدرة حقاً للشغل والدخل عوض الانكباب على تفعيل مشاريع ذات مردودية ضعيفة ولا تساهم بما يكفي في تخفيف الهشاشة والفقر والإقصاء الاجتماعي ، علما أن توفير الموارد المالية لا يكفي لتحقيق التنمية القروية الشاملة، ما دامت بعض الأطراف تتصرف في الميزانيات المرصودة دون عقلانية ومن غير دراسات مستفيضة لجدوى المشاريع الإنمائية ودون الانصياع لمعايير المردودية الاقتصادية الحقة.

6- عن التكوين المهني والاندماج المهني للشباب: خصص ملك البلاد في خطابه بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب حيزا هاماً لأوراش التكوين المهني في المغرب، مع إبراز أهميتها في الإدماج المهني للشباب وصون كرامتهم، خاصة في القرى وضواحي المدن. وتتضح في هذا الإطار الرؤيا الصائبة للملك، طالما أنه فهم أن الاعتماد على الفلاحة وحدها لا يكفي لتحسين الوضعية الاقتصادية والاجتماعية لسكان البوادي الذين يهاجرون مداشرهم في اتجاه المدن، مما ينجم عنه اكتظاظ حضري وانتشار السكن غير اللائق واستفحال الجريمة، بحيث أن الحلّ يكمنُ في نهاية المطاف في تنويع مصادر الدخل (Diversification des sources de revenu) للساكنة القروية وبناء مدن صغيرة على أطراف القرى والمداشر، على غرار ما يحدث في البلدان المتقدمة التي تسعى إلى تحسين أوضاع القرويين وتخفيف الازدحام على المراكز الحضرية الكبرى والمتوسطة.

7- دور الطبقة الوسطى في التنمية والتماسك الاجتماعي وآفاق تقويتها: أثار الملك نقطة هامة تتعلق بدور الطبقة الوسطى (Classe moyenne) كقاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتماسك الاجتماعي (Cohésion sociale) والاستقرار (Stabilité) في مجتمع شبهه ببيت متكامل البنيان، تعتبر الطبقة الوسطى نواته الصلبة (Noyau dur : Hard Core)، بينما تشكل الطبقات الأخرى بقية مكوناته. ونظراْ لأهمية الطبقة الوسطى في بناء المجتمع، يرى ملك البلاد أنه يتوجب علينا العمل على صيانة مقوماتها وتوفير الظروف الملائمة لتقويتها وتوسيع قاعدتها ورفع آفاق الترقّي منها وإليها. تبقى الإشارة هنا إلى أن للطبقة الوسطى دوراً آخر لا يقل أهمية عن مساهمتها في التنمية والتماسك الاجتماعي والاستقرار، ويتمثل في قدرة هذه الطبقة على خلق النُّخب (Création d’élites) وجذب الشرائح الأقل غِنىً في اتجاهها، في إطار حركية اجتماعية متواصلة (Mobilité sociale continue). كما أن الملك ركز في خطابه على أن تقوية الطبقة الوسطى لن تتحقق إلا بالارتفاع المضطرد للنمو الاقتصادي على المديين المتوسط والطويل، والذي من شأنه أن يخلق الثروة ويساعد على عدالة توزيعية محترمة.

8- عن معضلة النمو الاقتصادي وتبعيته للتقلبات المناخية: أية آفاق؟: قال الملك في خطابه إن المغرب قد حقق نسب نمو اقتصادي لا بأس بها، إلا أن ترتيب الدّول في هذا المضمار لا يراعي الفوارق الموجودة بين البلدان المنتجة للنفط والغاز وتلك التي لا تتوفر عليهما؛ مما يعني أن المغرب، رغم عدم توفره على هذه الموارد الطبيعية الإستراتيجية، استطاع الصمود اقتصاديا رغم تبعات الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية. يلاحظ أن المغرب قد استطاع فعلاً أن يحقق نسب نمو اقتصادي تقارب في متوسطها السنوي4% ، وذلك منذ بداية الألفية الثالثة، أي منذ اعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة. إلا أنه يجب التذكير بأن المغرب لم يستطع الحفاظ على هذا المعدل المتوسط إلا بتوالي سنوات سِمانِ من حيث انتظام التساقطات المطرية (Précipitations pluviométriques) وبالتالي تحسُّن القيمة المضافة للقطاع الفلاحي (Valeur ajoutée du secteur agricole) الذي ما زال يؤثر بقوة في النمو الاقتصادي، وما معدل النمو الاقتصادي المرتقب للسنة الحالية المتسمة بضعف نسبي لهطول الأمطار، إلا دليل قاطع على تبعية اقتصادنا للحكامة الإلهية (Gouvernance divine)، حيث أن الناتج الداخلي الإجمالي بالأسعار الثابتة (PIB aux prix constants) لن يتزايد هذا العام إلا بنسبة ضعيفة تحوم حول معدل 2,5%.

9- بطء في تفعيل الجهوية المتقدمة: نحو إدماج كفاءات جديدة: خصص ملك البلاد حيزا هامّاً من خطابه بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب لتفعيل الجِهوية المتقدمة (Régionalisation avancée). وركز في هذا الصدد على ضرورة التطبيق الأمثل للجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري، بغية الرفع من مستوى الاستثمار الترابي (Investissement territorial) والعدالة المجالية (Equité spaciale). وفي هذا الإطار، ركز الملك محمد السادس على أن ملفات عديدة متعلقة بالجهوية الموسعة ما زالت تعالج بالمراكز الإدارية بعاصمة المملكة رغم كل المجهودات التي بذلت في السنوات الأخيرة وتوفر كل النصوص القانونية اللازمة لتفعيل هذا الورش الإنمائي الهام؛ قبل ان ينتقد بشدّة البطء والتأخر الحاصلين في إنجاز المشاريع، بل شدد على أن المسؤولين يتخلون أحياناً عن مشاريع تمت صياغتها ولم تنجز قط،، مستدعياً الحكومة إلى إعطاء الأسبقية لهذا الموضوع في الآتي من الأيام.

10- ضرورة الاستفادة من التعلُّم الاجتماعي لتصحيح مسار التنمية: ركز ملك البلاد في خطابه الأخير على فكرة هامة مفادها أننا لا يجب أن نخجل من نقاط ضعفنا ومن الأخطاء التي شابت مسارنا في جميع المجالات؛ بل يجب أن نستفيد منها كدروس كفيلة بتقويم الاختلالات وتصحيح المسارات السابقة. وفي هذا الإطار، ذهب ملك البلاد إلى أن الاستفادة من أخطائنا هي في الحقيقة جهاد أكبر يرمي إلى الاستجابة للتطلعات المشروعة لعموم المواطنين. إن أهمية استقاء الدروس من تجارب سابقة وغير مرضية تدخل في الحقيقة في ما يمكن أن نسميه التعلُّم الاجتماعي (Apprentissage social : Social Learning). ولكن، للأسف، قلما يتعظ مسؤولونا في الحكومة المركزية بالرباط كما على المستويين الجهوي والمحلي، من تجاربهم السابقة؛ بل إن صانعي القرار لا يتوفرون غالباً إلا على عقلانية ناقصة (Rationalité limitée : Bounded Rationality)، بتعبير الأكاديمي الأمريكي الشهير هيربرت سَيمون. وفي هذا الإطار، تتضح أهمية إيلاء المسؤولية للأشخاص ذوي الكفاءة في مجالات تخصصهم، مع إخضاعهم لمساطر واضحة من حيث المساءلة والمحاسبة (Reddition des comptes : Accountability).

خواتم:

كانت هذه قراءات موجزة في الخطاب الرسمي الذي ألقاه الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى والسادسة والستين لثورة الملك والشعب.  على العموم، يتبين من قراءاتنا للخطاب أن صياغة وأجرأة النموذج التنموي الجديد لا يمكن أن يعطيا ثمارهما على المديين المتوسط والطويل إلا بالتوفر على كفاءات عالية على طول هرم السلطة، بالإضافة إلى ضرورة تآزر جميع الفاعلين المؤسساتيين وشبه المؤسساتيين وغير المؤسساتيين، بمن فيهم المواطن العادي. إن مسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيه من التعقيدات ما لا يخطر على بال الإنسان العادي؛ وبالتالي فإن تحقيق التنمية المستدامة لا يمكن أن يتأتى إلا بتحولات جذرية في بنيات المجتمع، بحيث أن صياغة نموذج تنموي ما هي في الحقيقة إلا عامل مساعد على التغيير، بشرط التوفر على الكفاءات اللازمة لذلك. تبقى الإشارة في الأخير إلى أن ما ينطبق على النموذج التنموي يسري كذلك على الجهوية المتقدمة التي تستوجب التوفر على الكفاءات كما على التعاون المثمر بين كافة المتدخلين، كما توحي بذلك تجارب بلدان قطعت أشواطا بعيدة في هذا المضمار، مع العلم أن التربية والتعليم الصحيحين يكونان أساس التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلدان على مر العصور؛ ومن ثمة وجب التذكير بأهمية تصحيح الاختلالات التي تشوب منظومتنا التعليمية والتكوينية والتي قد تدفع المرء إلى اعتبارها في عداد القطاعات المريضة. هذا هو الواقع المرّ، فلنتمسّك بالتعلُّم الاجتماعي (Apprentissage social) ولنغير المسار بشكل إيجابيّ قبل فوات الأوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى