تستعد المملكة لأن تعيش على إيقاع كأس إفريقيا للأمم 2025، ومعها يتسابق الفاعلون العموميون والخواص لحجز مكان في “الصورة الكبرى” لهذا الحدث القاري.
الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم (الكاف) والسلطات المغربية رسمت خريطة واضحة لثماني “مناطق مشجعين” رسمية موزعة على سبع مدن، بفضاءين اثنين في العاصمة الاقتصادية: أنفا بارك وفضاء “طورّو” بعين الذئاب.
في المقابل، تحركت عدد من الوكالات لتسويق “فضاءات مشجعين” موازية ضمنها فضاء بـ “الفيلودروم” وآخر بكنيسة “القلب المقدس” بشارع الراشيدي، وحتى في مركب الأمل.. فضلا عن فضاءات أخرى أقل حجما.. وضمن هذا العروض يبرز العرض الأضخم الذي أعلنت عنه بداية وكالة خاصة هي “COMETRIX” والتي خرجت خطاب دعائي يتحدث أولًا عن “Fan Zone عين السبع” بشراكة مع العمالة، ثم لاحقا بعد بضعة أسابيع أعلنت عن نقل “منطقة المشجعين” نفسها إلى المركز التجاري “موروكو مول”، مع استعمال مباشر لتسمية “Fan Zone CAN 2025” في العروض الموجّهة للشركات الراعية.
وبين المنظومة الرسمية وهذا المسار التسويقي الموازي، يفتح هذا التحقيق أسئلة حساسة حول حدود العلامة، وحقوق البث، وسلامة الجمهور، والمسؤولية القانونية لمن يروّجون لمثل هذه الفضاءات.
خريطة “مناطق المشجعين” الرسمية
المعطيات الصادرة عن الكاف واللجنة المحلية المنظمة تُجمع على أن المغرب سيحتضن ثماني “Fan Zones” رسمية في سبع مدن: الرباط، تمارة، الدار البيضاء، طنجة، فاس، مراكش وأكادير. هذه الفضاءات مُصمَّمة لاستيعاب عشرات الآلاف من المتفرجين يوميًا، وتعمل وفق توقيت شبه موحّد من منتصف النهار إلى الواحدة صباحًا، مع بث المباريات على شاشات عملاقة وبرمجة فنية وترفيهية موازية.
ولولوج هذه المناطق، فُرض نظام “بطاقة مشجع” “Fan ID” عبر تطبيق “Yalla”، يتيح تسجيل البيانات مسبقا وتنظيم تدفقات الجماهير، ويُقدَّم كآلية لضبط الأمن وتسهيل الخدمات (نقل، ضيافة، تذاكر، إلخ). في الدار البيضاء، تشير المعطيات المتاحة إلى فضاءين فقط ضمن هذه الشبكة: أنفا بارك في قلب مشروع “كازا أنفا”، وفضاء “طورّو” بعين الذئاب على الواجهة الأطلسية.
أنفا بارك يُقدَّم رسميًا كفضاء عائلي مفتوح، بمساحة خضراء واسعة تُهيَّأ لتستوعب منصة رئيسية وشاشات وأجنحة للشركات الراعية، بينما يُعرَف فضاء “طورّو” بإطلالته على البحر وقدرته على استيعاب جماهير كبيرة في فضاء شبه دائري. هذه المواقع وحدها، في حدود ما هو منشور، تحمل صفة “منطقة مشجعين رسمية” في مدينة الدار البيضاء خلال الكان.
من “Fan Zone عين السبع” إلى “Fan Zone Morocco Mall”

في الضفة الأخرى، تبني وكالة “Cometrix” سرديتها على مسار مختلف. البداية كانت بمنشور على منصة “لينكدإن” لأنس بوغطاية، الذي يقدَّم بصفته خبيرًا في تطوير الأعمال والنمو التجاري، يعلن فيه أن “الكان 2025 تستعد، والدار البيضاء سترتجف في عين السبع”، قبل أن يضيف أن “Cometrix تطلق Fan Zone عين السبع، بشراكة مع عمالة عين السبع”، ويصف الفضاء بأنه “مكان فريد لعيش شغف كرة القدم الإفريقية”، مع دعوة مباشرة للعلامات التجارية للاتصال به أو بصوفيا لحلو، مديرة المبيعات والتسويق في الوكالة.
على حساب الشركة الرسمي، يظهر منشور آخر يعرّف المشروع بأنه ” Fan Zone Officielle d’Aïn Sebaâ “، مع ملصق بصري يحمل عبارة “Rejoignez l’aventure Fan Zone Aïn Sebaâ” فوق صورة مدرجات وشاشة عملاقة وأعلام مغربية، ويعرض على الشركات والمؤسسات فرصة “الانخراط في تجربة إنسانية شعبية جامعة”.
وإلى جانب هذه المنشورات، يدور عرض تقديمي يتضمن تفاصيل تقنية عن المشروع: فترة النشاط من 21 دجنبر إلى 18 يناير، قدرة استيعابية يومية لآلاف الزوار، تقسيم الفضاء إلى مدرجات وشاشات عملاقة ومنطقة مطاعم ومناطق ألعاب، وصيغ رعاية تتوزع بين “شركاء رئيسيين” و”شركاء محتوى” و”شركاء إطعام ومشروبات”. في هذا العرض تُستعمل تعابير من قبيل “Fan Zone officielle de la CAN 2025 à Aïn Sebaâ” ويُلمَّح إلى شراكات مؤسساتية، دون أن يُذكر أي رقم ترخيص أو اسم جهة رسمية مانحة للتفويض.

بعد أسابيع على هذه الحملة، يظهر منعطف جديد: منشورات لاحقة على الحسابات الرسمية للوكالة على “لينكدإن” و”إنستغرام” تتحدث عن أن “Fan Zone عين السبع ستُستقر في النهاية بموروكو مول”، مع تقديم ذلك كـ “خيار استراتيجي” يمنح المشروع كثافة زوار أعلى بفضل الموقع التجاري، ويزيد جاذبيته للشركات الراعية. الخطاب يبقى نفسه تقريبًا: “Fan Zone CAN 2025” من إنتاج “Cometrix”، لكن الموقع ينتقل من عين السبع إلى داخل مركز تجاري ضخم، من دون إعلان رسمي عن إلغاء المشروع الأول أو توضيح العلاقة بين النسختين. بالنسبة للقارئ العادي، الرسالة بسيطة: “Cometrix” تدير “Fan zone الكان في الدار البيضاء”، أينما وُجد موقعها النهائي.

فجوة بين الخطاب والصفة الرسمية
المثير أن أيًا من بلاغات الكاف أو اللجنة المحلية لا يذكر عين السبع أو موروكو مول ضمن قائمة مناطق المشجعين الثماني. كل المعطيات المتاحة تشير حصريًا إلى أنفا بارك وفضاء “طورّو” بعين الذئاب، ولا تتحدث عن مراكز تجارية. في الوقت نفسه، تجارب سابقة في المول وأنفا بارك خلال كأس العالم 2022 وكأس إفريقيا 2023 كشفت عن “قرى تنشيط” تحمل أسماء تجارية مثل “Live Foot Zone “، نظمتها وكالات أخرى ببث المباريات وأنشطة موازية، لكن دون أن تُصنَّف رسميًا كـ”Fan Zones ” تابعة للفيفا أو الكاف، رغم استعمال الإعلام أحيانًا هذه التسمية بالمعنى العام.
الفرق الجوهري اليوم هو أن الكاف بنت شبكة رسمية محددة لـ “مناطق المشجعين” في كان 2025، وربطت استعمال هذه التسمية بفضاءات محصورة تتطلب بطاقة مشجع، بينما تستمر “Cometrix” في تقديم مشروعها كـ”Fan Zone CAN 2025″ في موقعين مختلفين خارج هذه الشبكة.

العلامة والملكية الفكرية: متى يتحول التسويق إلى اعتداء؟
القانون 17‑97 المتعلق بالملكية الصناعية في المغرب يحمي العلامات والبيانات المميزة المسجلة، ويعتبر أي استعمال غير مرخّص لعلامة مطابقة أو مشابهة على نحو يثير اللبس في ذهن الجمهور اعتداء يمكن متابعته مدنيًا وجنائيًا.
وفي قطاع الرياضة، صارت الأحداث الكبرى – من كأس العالم إلى الأولمبياد – علامات تجارية قائمة بذاتها، تشمل اسم البطولة وتركيبتها التسويقية مثل “TotalEnergies CAF Africa Cup of Nations Morocco 2025″، وحتى مصطلحات مرتبطة بالحدث مثل “Fan Zone” حين تُستعمل في سياق تجاري محيط به.
فقه التسويق الرياضي، أيضا، يصف الحالات التي تستفيد فيها علامات من حدث دون أن تكون جزءًا من منظومته الرسمية بـ”التسويق المتطفّل” (Ambush Marketing) حيث تُلمِّح شركة أو وكالة إلى انتمائها لحدث كبير لاستغلال شعبيته من دون دفع ثمن الرعاية أو احترام عقود الحصرية.
وحين تقدّم “Cometrix” مشروعها على أنه “Fan Zone officielle de la CAN 2025 à Casablanca” وتستخدم هوية بصرية قريبة من هوية الكان، يصبح السؤال القانوني مباشرًا: هل حصلت فعلًا على ترخيص مكتوب من الكاف أو من اللجنة المحلية أو حتى من جامعة كرة القدم لاستعمال هذه التسمية وهذه الرموز؟ إذا كان الجواب نعم، فلماذا لا يظهر أي أثر لذلك في البلاغات الرسمية؟ وإذا كان الجواب لا، فإلى أي حدّ يمكن اعتبار هذا الاستعمال اعتداءً على علامة الكان وحقوق رُعاتها الرسميين؟

حقوق البث: صور المباراة ليست مباحة للجميع
بعيدًا عن العلامات والشعارات، يبقى جوهر أي “Fan zone” هو بث المباريات نفسها. حقوق نقل CAN 2025 تتم عبر عقود حصرية أبرمتها الكاف مع قنوات ومنصات، من بينها مجموعة Bein sports التي تملك حصريا حقوق البث في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة التي تملك حقوق البث الأرضي في المغرب، إضافة إلى شركاء في أسواق أخرى.
هذه الجهات وحدها المخوّلة لمنح رخص “Public Viewing” التي تسمح ببث المباريات على شاشات عملاقة في الأماكن العامة أو التجارية، غالبًا وفق رسوم تعتمد على حجم الفضاء وعدد الشاشات وطبيعة الحدث (مجاني أو مدفوع، تجاري أو غير ربحي).
إلى جانب ذلك، تتضمن المباريات موسيقى وأناشيد ومواد خاضعة لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، ما يفرض التعامل مع هيئات إدارة الحقوق الجماعية لتسوية المقابل المالي عن كل بث عمومي في فضاءات كبرى، خاصة إذا ترافق مع بيع تذاكر أو استهلاك تجاري.
في الحالة التي يروج لها عرض “Fan Zone Morocco Mall”، يجري الحديث بشكل صريح عن “شاشات عملاقة” و”برمجة متواصلة لمباريات الكان”، لكن لا وجود لأي ذكر لشريك تلفزيوني، أو رقم رخصة بث عمومي، أو اتفاقية مع أي جهة مالكة لحقوق البث أو موزع دولي. هذا الفراغ لا يعني بالضرورة غياب التراخيص، لكنه يبرر طرح سؤال مركزي: على أي أساس قانوني تُباع اليوم للرعاة “مساحات مشاهدة عمومية لمباريات الكان” داخل هذا المشروع؟
سلامة الجمهور والمسؤولية القانونية
الملف لا يقف عند حدود التسويق والحقوق التجارية؛ هناك بُعد لا يقل حساسية يتعلق بسلامة الآلاف الذين يُفترض أن يرتادوا هذه الفضاءات. القانون 30‑09 المتعلق بالتربية البدنية والرياضة، إلى جانب النصوص التنظيمية لمحاربة العنف في التظاهرات الرياضية، يفرض على منظمي أي حدث رياضي كبير، رسميًا كان أو خاصًا، التزامات صارمة: الحصول على ترخيص من العمالة أو الولاية، إعداد مخطط أمني مع مخارج إغاثة ومسارات إخلاء، احترام الطاقة الاستيعابية، تأمين إلزامي للمسؤولية المدنية، والتنسيق مع أجهزة الأمن والوقاية المدنية.
في “مناطق المشجعين” الرسمية، تُفترض مراقبة مباشرة من اللجنة المحلية والسلطات، بحكم أن هذه الفضاءات جزء من منظومة الكان نفسها. لكن ماذا عن مشروع “Fan Zone موروكو مول” الذي يُقدَّم للجمهور على أنه فضاء الكان في المدينة، دون أن يكون مدرجًا في الشبكة الرسمية؟ إذا تم تنظيم تجمعات بالآلاف داخل مركز تجاري بحجة “Fan zone الكان “، فإن أي حادث تدافع أو حريق أو خلل بنيوي قد يطرح أسئلة معقدة حول المسؤولية: هل تتحملها الشركة المنظمة وحدها؟ ماذا عن إدارة المول؟ وماذا عن السلطة التي رخصت للتجمع، أو اللجنة المحلية التي سمحت، إن سمحت، باستعمال تسمية الكان في هذه الفضاءات؟
اللجنة المحلية والسلطات: الدور غير المعلن
الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم ليست صاحبة الامتياز التجاري للكان وحدها، لكنها عضو أساسي في اللجنة المحلية المنظمة، ومعنية بحماية صورة البطولة داخل التراب الوطني وضمان احترام عقود الرعاة. هذا الدور يجعلها في موقع مساءلة مشروع مثل “Fan Zone موروكو مول” على مستويين: مدى قانونية استعمال تسمية الكان وشعاراتها في العروض التسويقية، وحماية الجمهور من أي لبس قد يجعله يعتقد أن كل فضاء يحمل عبارة “Fan Zone CAN 2025” يخضع تلقائيًا لإشراف الجامعة والكاف.
أما السلطات المحلية، خاصة عمالة مقاطعات الحي الحسني وولاية الدار البيضاء، فهي التي تملك صلاحية الترخيص للتجمعات الكبرى وتحديد الشروط الأمنية والتنظيمية لكل حدث.
وإذا كانت وكالة “Cometrix” قد حصلت فعلًا على ترخيص لتنظيم “Fan Zone” داخل موروكو مول، فمن حق الرأي العام أن يعرف طبيعة هذا الترخيص: هل يتعلق الأمر بمجرد “تظاهرة تجارية/ترفيهية” عامة، أم أن الترخيص يذكر صراحة الانتماء إلى CAN 2025؟ وهل طُلب رأي اللجنة المنظمة أو الجامعة قبل السماح باستعمال هذه التسمية في أي وثائق رسمية؟
ماذا يربح المنظمون من حدث بهذا الحجم؟
مشروع “منطقة المشجعين” كما تتصوره وكالة Cometrix ومعها المركز التجاري موروكو مول يبدو، على الورق، آلة مثالية لصناعة الأرباح؛ إذ تقوم الوكالة أولًا على منطق تجاري واضح يجعلها المستفيد الرئيسي من الحدث، بينما يرى المول في التجربة أداة متكاملة لـ “التسويق الترفيهي” تعيد تعريف وظيفته كفضاء عيش وتجربة لا مجرد مركز للتبضع.
Cometrix، بصفتها صاحبة التصور والمنسّق الرئيس مع العلامات التجارية، تحوّل حماس الكان إلى رقم معاملات عبر حزم رعاية مدفوعة؛ فهي تبيع للعلامات “رسوم رعاية” تمنح صفة راعٍ رئيسي أو شريك رسمي، مقابل حق الظهور الحصري على الشاشات والمنصات واللافتات الخلفية ومسارات الجمهور داخل الفضاء بأسعار تبتدئ من 200 ألف درهم ثم 350 ألف درهم، فـ 600 ألف درهم لتصل إلى 1 مليون درهم. علاوة على عرض موحد لمنطقة المأكولات، بـ 45 ألف درهم للشركات التي ترغب في استغلال فضاء لعرض وجباتها.

هذه الحزم، تشكّل المصدر الأول لـ”مداخيل الفعاليات”، وتُضاف إليها مداخيل التذاكر المخصصة للجماهير، والتي حددت أسعارها بين 100 و250 درهما تبعا للمباريات المبرمجة وتوقيتها، دون إغفال عائدات “تنشيط العلامات”؛ حيث تؤجر الوكالة فضاءات للتجارب التفاعلية، والتذوق، والألعاب، وأكشاك البيع المؤقتة، مقابل مبالغ ثابتة أو وفق صيغ “تقاسم العائدات” مع بعض الشركاء، إلى جانب “أتعاب الإنتاج والخدمات التقنية” نظير تصميم الفضاء، وبناء المنصات، وتركيب الشاشات وأنظمة الصوت، وتدبير المحتوى واللوجستيك والموارد البشرية.
هذا ليس كل شيء، ففضلا عن كل مصادر المداخيل هاته، فالملصقات التي تتناول الجانب الفني من الحدث تقدّم البرنامج بوصفه “مهرجان حفلات” موازٍ للكان، وتعد الجمهور بسهرات يحييها عدد من الأسماء المصنَّفة كـ”نجوم”، من بينهم محمد رمضان، ودنيا باطمة، وحاتم عمور و”مستر غيمس”، و”ماجيك سيستيم” إلى جانب فنانين عرب ومغاربة وأفارقة آخرين.
وفوق هذا الربح المالي المباشر، تراهن Cometrix على مكسب استراتيجي طويل الأمد: تقديم هذه التجربة كنموذج مرجعي في ملفها، ما يعزّز تموقعها كوكالة متخصصة في التسويق الرياضي وتنشيط الجماهير، ويمنحها قوة تفاوضية أكبر وأسعارًا أعلى في مشاريع لاحقة داخل الرياضة وخارجها.
في الجهة المقابلة، ينظر Morocco Mall إلى الـ Fan zone كأداة متكاملة لـ”التسويق الترفيهي” (retailtainment)، أي دمج التجارة بالتجربة الترفيهية لتحويل المركز إلى “وجهة تجربة” (experience destination) لا مجرد فضاء للتسوّق. الربح الأول هنا هو “زيادة تدفق الزوار”، فتنظيم مباريات على شاشة عملاقة، مع موسيقى وأنشطة موازية، يجذب إلى المول آلاف الزوار الإضافيين، كثير منهم لم يكن المول جزءًا من عاداتهم الاستهلاكية، ما يرفع عدد الوافدين اليومي بشكل واضح.
الربح الثاني يتعلق بـ”مدة المكوث” (dwell time) داخل الفضاء؛ فالمشجع الذي يأتي لمتابعة مباراة أو عيش أجواء “منطقة المشجعين” يمضي ساعات داخل المركز بدل دقائق، وهو ما يرفع “متوسط قيمة السلة” (average basket) في المطاعم ومحلات الأكل والشرب، ومتاجر الموضة، والترفيه، بحكم أن جزءًا مهمًا من الجمهور يتناول وجبة، أو يشتري منتجات، أو يقوم بجولة تسوّق قبل المباراة أو بعدها.
إلى جانب ذلك، يستغل المول الحدث كمنصة لـ”تنشيط العلامات” (brand activation) داخله، عبر كراء مواقع للرعاة أو تقاسم جزء من مداخيل بعض الأنشطة مع الوكالة، مما يضيف طبقة أخرى من الدخل فوق مداخيل المحلات العادية. والأهم أن ربط اسم Morocco Mall بحدث قاري بحجم كأس إفريقيا للأمم يعزّز “تموضع العلامة التجارية” (brand positioning) للمركز بوصفه أكبر وجهة للترفيه والتسوّق في المغرب وإفريقيا، ويمنحه مادة قوية لحملات العلاقات العامة والتسويق الرقمي تحت شعار أنه المكان الذي “تُعاش فيه أجواء الكان”، بما يسهّل استقطاب علامات عالمية جديدة تبحث عن فضاءات ذات حركة عالية (high‑traffic locations)، ويوفر قاعدة غنية لتطوير برامج الولاء والعروض الخاصة لزبنائه حتى بعد إسدال الستار على البطولة.

غير أن هذا السيناريو المثالي للإيرادات يصطدم بواقع قانوني وتنظيمي صارم؛ ففي تجارب سابقة مع بطولات كبرى للفيفا والاتحادات القارية، لم تتردد الهيئات المالكة للحقوق في الضرب بقوة على مبادرات تجارية استعملت أسماء البطولات أو مفهوم “Fan Zone” دون ترخيص، حتى عندما كانت هذه المبادرات تحقق أرقامًا مهمة على مستوى المداخيل والحضور.
تقارير قانونية عديدة توثّق حالات أُجبرت فيها مطاعم ومراكز تجارية ووكالات على نزع لوحات تحمل عبارة “World Cup Fan Zone” أو “Euro Fan Zone” وتغيير الهوية البصرية لحملاتها، بل وحتى إلغاء شاشات عمومية بالكامل، بعد تلقي إنذارات من الفيفا أو الاتحادات المحلية بسبب ما اعتُبر “تسويقًا بالاستغلال” يمسّ بحقوق العلامات والرعاة الرسميين.
في مثل هذه الحالات، لم يكن الخطر نظريًا: الإيرادات التي بدأت تتدفق توقفت فجأة، واضطر المنظمون إلى تعويض رعاة غاضبين واسترجاع جزء من الرسوم، وإعادة طبع كل المواد الدعائية، إضافة إلى مواجهة أضرار على مستوى السمعة وعلاقة الثقة مع الشركاء.
وتبعا لذلك فبالنسبة لمشروع تُسوِّقه وكالة خاصة على أنه “Fan Zone CAN 2025″ دون أن يَرِد في اللائحة الرسمية لـ”مناطق المشجعين” المعتمدة من الكاف، أو أن تُعلن اللجنة المحلية عن شراكة واضحة معه، فإن السيناريو نفسه يبقى قائمًا بالكامل؛ فكل عقود الرعاية وتنشيط العلامات التي تبني عليها Cometrix نموذجها الربحي، وكل الرهانات التي يعقدها Morocco Mall على ارتفاع تدفق الزوار ومتوسط السلة، تظل معلّقة على شرط واحد غير مضمون: ألّا يعتبر الكاف أو اللجنة لمحلية، وضمنها الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، أو حامل حقوق البث أن استعمال تسمية “Fan Zone CAN 2025” وبث المباريات في فضاء تجاري يشكل اعتداءً على الحقوق أو خلطًا مع الشبكة الرسمية.
وأي تدخل، حتى لو جاء متأخرًا، من هذه الأطراف يمكن أن يفرض تغيير الاسم، وسحب كل ما يحيل إلى الكان من الفضاء، أو حتى وقف البث العمومي للمباريات، فيتحول مشروع قُدِّم للشركات المعلِنة ولإدارة موروكو مول كـ “آلة لتوليد الأرباح” إلى ملف نزاع يتقاسم فيه الجميع خسائر مالية وقانونية، بدل أن يكون قصة نجاح تجارية كما توحي به العروض الترويجية الأولى لـ”Fan Zone Morocco Mall”.
رواية “موروكو مول” وتناقض الوثائق..
البحث في هذا التحقيق فرض التواصل مع أكثر من جهة، بدءا بالكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم، إلى جامعة الكرة، مرورا بولاية الدار البيضاء الكبرى، فضلا عن الجهتين المعنيتين أكثر بالموضوع وهما وكالة “cometrix” وإدارة المول.
في تفاعلها مع أسئلة “بزنسمان ماغازين” قدّمت إدارة المركز التجاري رواية مفصلة تسعى إلى وضع الحدث خارج أي لبس مع المنظومة الرسمية للبطولة. فبحسب توضيحاتها المكتوبة، تتدخل شركة “Cometrix” حصريًا كوكالة مكلفة بتدبير وبيع عقود الرعاية، من دون أي صفة “منظِّم مشارك” أو “شريك في التنظيم”، بينما يبقى “موروكو مول” وحده صاحب المشروع والمنظم الرسمي له، ويتحمل بمفرده مسؤولية تصميم التظاهرة وتنفيذها واستغلالها.
كما تؤكد الإدارة أن جميع القرارات الاستراتيجية والعملية المتعلقة بالحدث تُتخذ داخل المول، وأن دور الوكالة يظل محصورًا في الجانب التجاري المتعلق بالرعاة والجهات المعلِنة، مع تشديد على أن التظاهرة تندرج ضمن إطار “Africa Festival du Morocco Mall” وأن كل التراخيص الإدارية الخاصة بهذا المهرجان استخرجت من السلطات المختصة، وأن الفضاء المقام لمشاهدة المباريات لا ينتمي إلى شبكة Fan Zones الرسمية التابعة للاتحاد الإفريقي، بل هو “فضاء عرض خاص” يُقدَّم بهذه الصفة للزوار والشركاء لتفادي أي خلط في الصفة القانونية.
على المستوى التقني والقانوني، تفيد إدارة “موروكو مول” بأنها أبرمت مباشرة “الرخص اللازمة” مع القنوات المالكة لحقوق بث المباريات، وأن هذه التراخيص تغطي البث العمومي للمواجهات داخل الفضاء التجاري مع احترام كامل لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة المرتبطة بالمحتويات السمعية البصرية المعروضة. وتحدد الطاقة الاستيعابية القصوى لفضاء العرض في 2000 شخص، مع الإشارة إلى وجود ثمانية مخارج طوارئ مطابقة للمعايير، وتجهيزات متكاملة لمكافحة الحرائق، وشركة خاصة للحراسة، بالإضافة إلى فرق أمن وسلامة وتنسيق مستمر مع السلطات الأمنية ومصالح الوقاية المدنية.
وتضيف أن جميع التراخيص الإدارية الضرورية منحتها السلطات المحلية، وأنه إلى جانب بوليصة التأمين الاعتيادية الخاصة بالمركز، تم الاشتراك في تأمين إضافي مخصص لـ”Africa Festival” لتغطية مختلف المخاطر المرتبطة بالتظاهرة، مع ربط هذه النسخة من المهرجان بتجارب سابقة خلال كأس العالم 2022 وكأس الأمم 2023، والتأكيد المتكرر على أن الفضاء الحالي “ليس Fan Zone رسمية” ولا يترتب عنه أي ارتباط مباشر باللجنة المنظمة أو بالاتحاد الإفريقي لكرة القدم.

غير أن فحص الملفات التسويقية والعروض التجارية، إضافة إلى الملصقات الترويجية التي تم تحديثها، يكشف عن خطاب موازٍ لا يتطابق بالكامل مع هذه الرواية الرسمية. فالملف التجاري الخاص بالرعاية يقدّم المشروع تحت تسمية واضحة هي “La Fan Zone du Morocco Mall” و”Fan Zone Morocco Mall – édition CAN”، ويصفه بأنه فضاء متكامل يجمع بين بث المباريات والحفلات ومنطقة المطاعم والأنشطة الترفيهية، في شكل أقرب إلى “منطقة مشجعين” مرتبطة مباشرة بالبطولة منه إلى مجرد فضاء عرض داخلي ضمن مهرجان عام.
وحتى العروض الموجَّهة لمستغلي فضاء المطاعم في الـFood Court تستخدم المعجم نفسه، إذ تُسوِّق المشاركة على أنها “تذكرة دخول إلى قلب Fan Zone Morocco Mall – édition CAN” مع وعود بالاستفادة من تدفّق جماهيري ناتج عن مباريات الكأس الإفريقية ذاتها، فيما يظهر في الخلفيات البصرية استعمال هوية “AFRICA FUSION” مصحوبة صراحة بعبارة Fan Zone، بما يجعل “Africa Fusion/Africa Festival” في هذه الوثائق أقرب إلى علامة تغلّف مشروع فان زون مكتمل الأركان.
الملصق الخاص بعرض “SKY BOX” يرسّخ هذا الاتجاه؛ إذ يحمل في أعلاه شعاري الجهتين المنظمتين معًا، ويتضمن العنوان الواضح “OFFRE SKY BOX – FAN ZONE MOROCCO MALL 2025″، مرفوقًا بعبارة “Vivez la CAN 2025 depuis un espace privé, premium et entièrement exclusif”، ويعرض فضاءً خاصًا بمساحة 30 مترًا مربعًا، بطاقة استيعابية تصل إلى 20 شخصًا، مع ولوج “100% خصوصي ومؤمَّن” وسعر محدد في 125 ألف درهم لكل فترة الكان. هذا العرض لا يُسوَّق كجزء من “مهرجان ثقافي” بل كخدمة متميزة داخل “Fan Zone Morocco Mall2025” مخصصة لعيش تجربة CAN 2025 من فضاء خاص، ما يعني أن استعمال تسمية “Fan Zone” ليس مقتصرًا على وثائق داخلية موجهة للرعاة بل يمتد إلى عروض تجارية مرتبطة مباشرة بالجمهور.
هذا التباين بين خطاب رسمي يصر على توصيف الفضاء بأنه “فضاء عرض خاص” داخل “Africa Festival”، وخطاب تجاري وبصري يعرّفه بوضوح على أنه “Fan Zone Morocco Mall – édition CAN 2025” مع منتجات موازية مثل “Sky Box”، يطرح السؤال الجوهري في صلب هذا التحقيق: هل جرى توظيف تعبير “Fan Zone” والمرجعية الرمزية للبطولة عمدًا في المواد التسويقية لجذب الرعاة والمستفيدين وإضفاء طابع “منطقة مشجعين” على المشروع، مع السعي في الوقت نفسه إلى محو هذا التوصيف من الرواية الرسمية تفاديًا لأي احتكاك مباشر مع الاتحاد الإفريقي ومالكي حقوق البث؟ وهل إدراج العبارات الدعائية المشار إليها تم بعلم وإشراف إدارة المول، أم في إطار هامش تحرك واسع تُرك للوكالة، مع ما قد يترتب عن ذلك من مسؤوليات قانونية وتجارية محتملة إذا اعتبرت الجهات المالكة للحقوق أن هذا الاستعمال لتسمية “Fan Zone” ولرمزية كأس الأمم يرقى إلى استغلال غير مرخَّص للعلامة ولمنظومة الفضاءات الرسمية المصاحبة للبطولة؟
تحديث شامل يزيل كثيرا من الغموض..
في خضم هذا التباين، ظهر عنصر جديد بعد مراسلة المجلة لإدارة المول: تحديث شامل للملصقات، لتكريس الفكرة الأساسية لردود الإدارة. الملصق الأحدث، الذي عممته الإدارة على حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي وأعاد بثها أيضا مسؤولوا الوكالة يعتمد الآن تسمية “AFRICA FESTIVAL MOROCCO MALL” مع شعار “ONE GAME ONE AFRICA”، ويستبدل عبارة “Fan Zone” بتعبير “LIVE ZONE”، مع المحافظة على وعود بث المباريات (“Diffusion des matchs – Live”) والأنشطة الحصرية، وعلى صف طويل من شعارات الرعاة في الأسفل، من الراعي الرسمي إلى الشركاء. جوهر العرض – مشاهدة المباريات، فود كورت، حفلات وتنشيط – لم يتغير؛ ما تغير هو التسمية التي أصبحت أقل احتكاكا بمصطلح “Fan Zone” المحمّل دلاليًا وقانونيًا في منظومة الكاف.

منشور جديد لأنس بوغطاية، مدير العمليات في “Cometrix “، على لينكدإن، يمنح هذا التحول بُعدًا واضحًا في ما يشبه الاعتراف: في النص يكتب: “نحن فخورون بالإعلان رسميًا أن Fan Zone Morocco Mall أصبحت AFRICA FESTIVAL MOROCCO MALL . بهذه الجملة، يعترف المسؤول بأن المشروع كان يُعرَّف في البداية كـ”Fan Zone Morocco Mall” وأن ما جرى لاحقًا هو تحويل الهوية إلى “Africa Festival”.
بهذا التسلسل الزمني، يتشكل أمام القارئ مسار واضح: في البداية، خطاب تسويقي داخلي وخارجي يستعمل بقوة تسمية “Fan Zone Morocco Mall – édition CAN 2025” لاستقطاب الرعاة والمطاعم والزبناء، مستفيدا من جاذبية فكرة الفان زون المرتبطة رسميًا بالبطولة.
لكن، مباشرة بعد طرحنا أسئلة التحقيق حول قانونية استعمال هذا المصطلح، وحدود التراخيص مع الكاف ومالكي حقوق البث، اختار المنظمون إعادة صياغة المشروع تحت مظلة “Africa Festival / Live Zone”، مع الاعتراف في منشور رسمي بأن “Fan Zone Morocco Mall” تحولت إلى مهرجان، دون توضيح علني للجمهور حول الأسباب أو حول مدى ارتباط هذا التحول بمراعاة حقوق العلامة واللوائح التنظيمية.

القيمة الاستقصائية لهذا المسار لا تكمن فقط في رصد “خطأ تواصلي” أو تناقض لغوي، بل في كشف كيف يمكن لفضاء تجاري أن يقترب جدا من هالة حدث قاري ضخم عبر استعمال تسمية محمية وبيئة “fan zone” في العروض والعقود، قبل أن يتراجع خطوة إلى الوراء عندما تُطرح أسئلة حول مشروعية هذا القرب.
في المقابل، يطرح هذا التطور على الرعاة والزبناء سؤالًا مشروعًا حول مستوى الشفافية في تقديم طبيعة الفضاء الذي استثمروا فيه أو اشتروا تذاكره: هل اشتروا تجربة “Fan Zone CAN 2025” كما رُوِّج لها في البداية، أم تجربة “Live Zone” داخل مهرجان تجاري فني كما يقدم اليوم؟
تلك هي الأسئلة التي يترك التحقيق للقارئ وللجهات المنظمة أن يتوقفوا عندها، مستندًا إلى وثائق وملصقات ومنشورات رسمية، لا إلى الانطباعات وحدها.







